لم يقتصر العصر الذهبي على ازدهار علماء المسلمين فقط، بل احتضنت الحضارة الإسلامية علماء يهودًا وأقباطًا كُثرًا، وساعدتهم الحضارة والثقافة الإسلامية السمحة على تحصيل العلوم المختلفة والتفكير والإثراء في شتى المجالات، فالعصور الإسلامية واحدة من أهم العصور التي ساعدت اليهود على الإنتاج الفكري الشامل، وهكذا كدأب أي تفاعل بين الشخص والحضارة التي يعيش في ظلها، تأثر اليهود بالثقافة الإسلامية، فبرز آنذاك واحد من أبرز علماء اليهود على مر العصور، وكان تميزه من أنه ليس يهوديًّا تقليديًّا، بل كان مُجددًا مُبتكرًا في شتى المجالات. إنه موسى بن ميمون الذي اشتهر برمبام רמבּ״ם (وهو اختصار لاسمه بالعبرية).
في تلك الفترة كان اليهود يشتركون مع المسلمين في فتح الأمصار الأندلسية، والعديد من جموع اليهود تلقوا العلم في المعاهد الإسلامية العليا، حتى نبغ منهم رجال فلاسفة وأطباء وشعراء.
أما قرطبة على وجه الخصوص فازدهرت بها علوم اللغة العبرية، وظهر بها مناحم بن سروق، أول من دوَّن القاموس العبري، ودوناش بن لبرط، أول من أدخل البحور العربية في الشعر العبري، والوزير حسداي بن شفروط، والنحوي أبو زكريا يحيي بن داود ابن حيوج، مؤلف كتاب «الأفعال ذوات المثلين» (أي الأفعال المضعفة)، وأُسست المدرسة الدينية العليا على يد الحاخام موسى بن أخنوخ بمساعدة الوزير حسداي بن شفروط، وكانت بمثابة كعبة يحج إليها طلاب العلم اليهود، كما أنهم استغنوا بها عن مدارس بغداد. كما وضح لنا البروفسور إسرائيل ولفنسون، المستشرق اليهودي الإسرائيلي، في كتابه «موسى بن ميمون حياته ومصنفاته»، كل هذا ترك في نفس موسى بن ميمون أثرًا قويًّا.
ولد في كنف الحضارة والثقافة الإسلامية في قرطبة بجنوب إسبانيا، في عام 1138م أو أواخر عام 1137م، تلقى التعليم الديني اليهودي على يد والده ميمون، فقد كان هذا الأخير بدوره عالمًا دينيًّا، وتلميذ الحاخام اليهودي إسحاق الفاسي، ولم يقتصر تعليمه على العلوم الدينية اليهودية فقط، بل تعلم العلوم الطبيعية؛ مثل: الفيزياء والطب والفلك والرياضيات، وتأثر كثيرًا بالفلسفة اليونانية، خاصة: أرسطو وأفلاطون، ولم يكن بمنأى عن العلوم الإسلامية، ففي الفترة المتأخرة من حياته تأثر بها كثيرًا، وظهر هذا في بعض كتاباته.
أمضى موسى بن ميمون بدايات حياته في مجتمع يحفز التبادل الثقافي وسط الأقليات اليهودية والمسيحية، كما وضح البروفسور موشيه هلبيرتل، أستاذ دراسات العصور الوسطى بجامعة كامبريدج، في كتابه «Maimonides: Life and Though»، والجدير بالذكر أن بعض المؤرخين يرجعون أسرة موسى بن ميمون إلى الحاخام يهودا هانسي، وهو الجاؤون الذي جمع المشنا (وهي شروح وتفاسير العهد القديم) وتصنيفها في القرن الثاني ق.م، على حد قول البروفسور إسرائيل ولفنسون، في كتابه «موسى بن ميمون حياته ومصنفاته».
تكمل الموسوعة اليهودية والموسوعة البريطانية بأنه حينما وصل لسن الثالثة عشرة تزعزع عالمه المستقر بدخول جماعة بربرية مسلمة يُطلق عليها «الموحدون» (وهى من سلالة الأمازيغ) إلى قرطبة واستولت عليها على يد عبد المؤمن بن علي الكومي الزناتي، وخيرهم بين تغيير دينهم إلى الإسلام أو الخروج من المدينة، فاختارت عائلته الرحيل، فذهبوا إلى المغرب (فاس)، على الرغم من أنها كانت تحت حكم الموحدين أيضًا، ولكنها كانت واعدة، فعائلة ميمون غير معروفة هناك، فيمكن أن يعيشوا تحت ستار، وهناك أكمل موسى بن ميمون تعليمه الديني، وتعلم الفلسفة اليونانية والطب، ولكن للمرة الثانية كانت فاس ملجأً غير آمن لهم، ففي عام 1165م قُبض على الحاخام يهوذا بن شوشان الذي درس مع موسى وأُعدم حينها.
مرة أخرى اضطرت عائلته للسفر، وكانت الوجهة هذه المرة إلى فلسطين، ونظرًا لظروفها الاقتصادية آنذاك، لم يمكثوا سوى عدة شهور، ثم سافروا إلى مصر واستقروا في الفسطاط عام 1166م، فتمتع اليهود بها بحرية في أداء عبادتهم بشكل علني وبدون خوف من الموت أو القبض عليهم.
اتُّهم مرة باعتناقه للإسلام، ولكنه تبرأ من تلك التهمة فيما بعد، ثم انقلبت حياته بموت أبيه بعد وصولهم لمصر بوقت قصير، ثم لحق بأبيه أخوه داود تاجر المجوهرات الذي مات غرقًا، آخذًا معه كل ثروة عائلته، حيث اعتمد عليه موسى في دعمه ماديًّا، وأصبح هو المعيل الوحيد لعائلته، وكانت تلك الحادثة بداية عمله بالطب، ليصبح طبيبًا ممارسًا ويعول أسرته، انتشرت سمعته سريعًا حتى وصلت إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، الذي كان وزيرًا عند صلاح الدين الأيوبي، فعُين موسى في بلاط السلطان، وخُصص له راتب حتى أصبح بعد ذلك الطبيب الخاص للملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي بن صلاح الدين، كما ذكر عز الدين ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ».
بينما كان اليهود في ذلك العهد يئنون في الأندلس والمغرب واليمن تحت نير الاضطهادات الدينية القاسية، خاصة بعد تولي الموحدين حكم البلاد، تمتع اليهود في مصر بحياة هنيئة حرة كباقي الطوائف والنِّحل، وأعطاهم صلاح الدين الحرية المطلقة، ولم يُؤثر طائفة على أخرى.
تولى موسى بن ميمون منصب رئاسة الطائفة اليهودية في مصر عام 1187م، فوجدت وثيقة من أدب الجنيزا توثق عقد قران كتب بإذن من الحاخام رئيس الطائفة العظيم موسى بن ميمون، وعندما تولى هذا المنصب رفع مستوى الشعب اليهودي دينيًّا وخلقيًّا وعلميًّا، كما أخذ ينفذ مشروعاته، ورفض أن يتناول أي مكافأة مالية على خدماته في هذا المنصب، كما وضح البروفسور إسرائيل ولفنسون في كتابه سابق الذكر، ويكمل في هذا الصدد بأن موسى بن ميمون أبطل العديد من العادات غير المرغوب فيها، مثل: التعاويذ التي كانت منتشرة بين الطبقات العامة، فرأى أنها نوع من أنواع الوثنية، كما أبطل عادة رقص العروس أمام جمهور المحتفلين بها في ملابس هزلية.
تبنى موسى بن ميمون رؤية واسعة للحكمة والفضول المعرفي، واشتهر بكتابه «دلالة الحائرين أو دليل الحائرين - מורה הנבוכים»، ولكن لم يكن هذا هو العمل الوحيد له، فكتب موسى رسالتين وهو في عنفوان الشباب قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين من عمره، الرسالة الأولى عن الأعياد اليهودية وكيفية معرفة الأشهر العبرية القمرية من السنة الشمسية، ووضعها بطريقة سهلة وبسيطة، فلا يحتاج القارئ إلى مرشد لكي يفهم طريقة معرفة الأشهر العبرية بمفرده. أما الرسالة الثانية فوضعها لعلماء اليهود ذوي الإلمام بالأدب العربي الذين احتاجوا لعلم الفلسفة والمنطق الإسلامي، ويذكر في بداية الرسالة أن المنطق لا يُعد علمًا بذاته، بل هو تمرين التلميذ والمعلم على البحث وتنظيم التفكير، وهكذا يشرح في أربعة عشر فصلًا أسس المنطق الإسلامي.
وقبل هجرة أسرة ابن ميمون إلى المغرب الأقصى بدأ موسى يدوَّن شرحًا لبعض أسفار التلمود البابلي الذي ذهبت أغلب صفحاته أدراج الرياح أثناء الانتقالات الكثيرة للأسرة آنذاك قبل أن يصل إلى مصر، كما وضح لنا البروفسور إسرائيل ولفنسون في كتابه «موسى بن ميمون حياته ومصنفاته».
يكمل لنا البروفسور ولفنسون أن موسى بدأ في تفسير مُفصل للمشنا، ولكن توقف بسبب وفاة أبيه ثم أخيه، وما تعرض له من مشكلات، وعندما استقرت الأوضاع في حياته أكمل تفسيره هذا عام 1168م، وكان وقتها يبلغ من العمر الثالثة والثلاثين، وسمى هذا الكتاب «السراج»، ووضع في صدره بحثًا وافيًا عن تاريخ نشأة الرواية والإسناد عند اليهود، وأضاف طريقة جديدة لدراسة المشنا والتلمود حتى أصبح علمًا مستقلًّا يدرس لذاته.
رغم أن الكتاب كُتب باللغة العربية، فإنه لم يلقَ رواجًا، فرفضه العديد من يهود الشرق، بينما أقبل عليه يهود المغرب والأندلس وجنوب فرنسا، حتى إنه تُرجم منه أجزاء إلى العبرية.
لم يتوقف موسى عن التدوين، فألف كتابًا آخر أدى إلى ثورة اجتماعية في حياة اليهود الدينية، وسُمي بكتاب «משנה התורה – تثنية التوراة» وكتبه باللغة العبرية، ويعتبر هذا الكتاب مصنفًا مستمدًّا من التلمود وشروحه وهوامشه، واستغرق العمل عليه مدة عشر سنوات، من قبل هذا الكتاب حاول سعديا الفيومي وإسحاق الفاسي وسليمان بن إسحاق وغيرهم أن يضعوا حواشي للشرح المعقد والغامض للتلمود والمشنا، لكنهم لم يستطيعوا أن يساعدوا رجال القضاء اليهود في وضع التشريعات، ولكن فعلها موسى بن ميمون من خلال كتاب «تثنية التوراة».
نشر كتابًا آخر قبل الكتاب السابق، وهو كتاب «الفرائض» الذي كان تمهيدًا لكتابه الكبير، وكتبه بالعربية حتى يسهل على الجماهير قراءته. له كتاب آخر لا يقل أهمية عما ذُكر، وهو عبارة عن إجابات لأسئلة متعلقة بيهود مصر، كُتب بالعربية ثم تُرجم للعبرية، وانتشر في مختلف أنحاء العالم بعنوان «موسى بن ميمون وأجوبته».
أما عن الكتاب الأكثر شهرة «دلالة الحائرين أو دليل الحائرين - מורה הנבוכים»، فهو أرقى ما وصل إليه التفكير اليهودي الفلسفي في القرون الوسطى، وتطور الفلسفة عند اليهود تزامن مع تطور الفلسفة عند المسلمين، وهذا الكتاب نتيجة لاتصال اليهود بالحضارة الإسلامية الفلسفية، وكُتب بالعربية اليهودية (أي لغة عربية بحروف عبرية)، سعى موسى في هذا الكتاب إلى تحديد فكرة الألوهية والثواب والعقاب والتوبة والجنة والنار، والأمور الغيبية التي لم تكن واضحة في العهد القديم، كما وضح البروفسور يوئيل كريمر، أستاذ الدراسات الإسلامية والفلسفة اليهودية في جامعة شيكاغو، في كتابه «Maimonides: The Life and World of One of Civilization's Greatest Minds»، وكتب العديد من المؤلفات التي ساهمت في إثراء الحياة الفكرية والاجتماعية والقانونية لليهود في مصر ومختلف أنحاء العالم، وحتى الآن تُدرس مؤلفاته وتُبحَث بمناهج علمية ومنهجية.
عاش موسى بن ميمون في مصر طوال فترة حياته حتى موته، وبها ألف العديد من المؤلفات المذهلة، وأيضًا تزوج بأخت أبي المعالي اليهودي، الذي كان كاتبًا عند الملك الفاضل، وأنجب موسى ولدًا واحدًا أسماه إبراهيم، ثم فتاة، ولكنها توفيت وهى صغيرة.
حذا إبراهيم بن موسى بن ميمون حذو أبيه، وأصبح حاخامًا يهوديًّا عظيمًا وطبيبًا، وله العديد من الكتب، كما وضح الحاخام اليهودي وأستاذ الجامعة بنمسا موريتز اشتينشنيدر، في مجلد بعنوان Die hebräischen Übersetzungen des Mittelalters - الترجمات العبرية في العصور الوسطى.
والجدير بالذكر أنه بُني معبد في حارة اليهود بالجمالية يحمل اسمه معبد موسى بن ميمون، وما زال موجودًا حتى الآن، ولكن ليس هناك معلومة مؤكدة عن وقت بنائه، وعندما توفي دُفن به، ثم نُقل جثمانه إلى فلسطين، ودُفن في طبرية، كما ذكر البروفسور ولفنسون، في كتابه.